حرب فيروز الأهلية

حرب فيروز الأهلية

في بودكاست "دُمْ تَكْ" لمعازف ومنصة صوت بنروي سيرة فنّانات عربيّات، موهبتهم جابتلهم وجعة راس بحياتهم...

The text of the episode

فيروز

بيروت ١٩٨٣، شارع الجنرال ديجول بالروشة؛ الشارع اللي كان ما بيهدى بين عجقة الناس الماشية عالكورنيش والسيارات عالمسربين، قتلته الحرب. 

مش بعيد يصير مسرح جريمة بالمشهد الجاي. 

وقَّفت السيارة بنص الشارع، نزلت منها وتركت الموتور شغّال والباب مفتوح، وركضت بأسرع ما عندها. 

بناية غندور اللي رايحة عليها روز كانت بعيدة كم خطوة. بس بهديك اللحظة، حست إنها ما رح توصل عايشة. شافت حارس البناية، حاولت تحكي بس ما طلع معها غير صراخ وكم كلمة: "سيارة، لحقوني، السِّت، دخيلك". الحارس دغري فتحلها البوابة وطلع معها عالطابق الثالث. دق الباب، وروز حده عم تحاول تلقط نفسها.

 لما انفتح الباب، غابت روز عن الوعي.

روز عاشت لحظات التوتر هيدي لأنها كانت رايحة تقابل فيروز. تحصيل مقابلة مع فيروز إنجاز، أكيد، بس لما تكون المقابلة عم بتصير ببيروت بعز الحرب الأهلية اللبنانيّة، بتصير مخاطرة بالحياة. 

*****

مرحبا فيكم ببودكاست "دم تك" لمعازف ومنصة صوت. أنا رنا داود. بهالحلقة رح نحكيلكم عن حرب فيروز الأهلية. هالقصة كتبها عمر ذوابه ورح نرويها نيابة عنّه.

*****

سنة ٢٠٠٦، شاركت بمنتدى زرياب للموسيقى العربية على الإنترنت، وتحديداً بالقسم المخصص لنوادر فيروز. معظم هاي النوادر سبق وانبثت، بس بسبب انعدام الأرشفة الممأسسة بالعالم العربي وتحديداً في لبنان، صارت المبادرات المستقلة متل منتدى زرياب حل مؤقت بديل عن أرشيف وطني مسؤولة عنه الدولة. منتدى زرياب ما انكتبله الاستمرار، فسنة ٢٠٠٩ اكتشفته ريما الرحباني بنت فيروز وعاصي الرحباني، وقدرت انها تتسبب بتسكيره بحجة الدفاع عن حقوق الملكية الفكرية للمواد المنشورة. اتسكر زرياب، وريما، مديرة شركة فيروز بروداكشنز، أكيد ما قدّمت بديل. أنا كنت من المحظوظين اللي قدروا يحتفظوا بهادي المواد قبل تسكير المنتدى. واحد من التسجيلات اللي لفتني بشكل عظيم كان لمقابلة مع فيروز سنة ١٩٨٣ على إذاعة صوت لبنان ببرنامج "من أحد لأحد" اللي كانت تقدمه روز فرح المعروفة بوردة الزامل أو وردة صوت لبنان. أسئلة وردة ما تجاوزت المعتاد، حتى بعضها كان مليان كليشيهات، بس المقابلة كان فيها عدة عناصر قوية: فيروز، على عكس عادتها، استرسلت بالحديث وحكت بكتير مواضيع، وبنفس الوقت قدّمت مقاطع من أغاني كانت عم بتسجلها بهديك الفترة، وجزء من هاي المقاطع ما رجع انبث ويمكن ما يرجع يصدر بشكل رسمي على الإطلاق. بس العنصر اللي حوّل المقابلة لحدث هو السياق التاريخي والسياسي والفني اللي رافق بث المقابلة، شو هو؟

 سنة ١٩٨٣ كانت السنة الثامنة للحرب الأهلية اللبنانية، السنة اللي لحقت سنة دامية بالمجازر والدمار بعد الاجتياح الإسرائيلي لبيروت. كان مفترض فيروز تحيي سلسلة حفلات بمسرح قصر البيكاديللي، وتحضيراتها كانت جارية، البطاقات نباعت والكتالوغات انطبعت، لكن ظروف الحرب أجلت الحفلات عدة مرات وتسببت بإلغاءها بالنهاية. أما الأخوين رحباني، فراحوا على القاهرة ليقدموا مع السوبرانو المصرية عفاف راضي نسخة ممصرة من مسرحية الشخص اللي قدموها أول مرة سنة ١٩٦٨ ببطولة فيروز، ضمن آخر محاولاتهم لإنقاذ مسرحهم الموسيقي الميّت سريرياً من لما انفصلت فيروز عنهم سنة ١٩٧٩. طيب، شو أنتجت فيروز من لما تركت الأخوين؟  أسطوانة "وحدن" لزياد الرحباني، وأسطوانة "دهب أيلول" لفيلمون وهبي، واجتمعت مع رياض السنباطي لمشروع قصيدة مدتها تلت ساعة، وعملت جولة حفلات كبيرة في أميركا وكندا، وهي كانت أول حفلات إلها بدون عاصي ومنصور الرحباني. طبعاً الأخوين حاولوا يخربوا على فيروز ويمنعوها بالأول إنها تغني إنتاجاتهم، بعدين أشرفوا على حملة إعلامية شنّها أصدقاءهم بالصحافة الفنية العربية، للتعتيم على أولى خطوات فيروز من دون الأخوين: "فيروز حملت معها تكشيرتها الشهيرة"، "فيروز هجرت وادي التيم"، "ماذا دهاك يا عظيمة"، ومانشيتات تانية تنوعت بين السخرية والذم. الحملة الإعلامية هاي ما كانت الأولى في حرب الأخوين على فيروز، سبقتها حملة أعنف رافقت إنفصال الثلاثي. بهديك الفترة، ما فوتوا الأخوين فرصة للظهور في الإعلام وإجراء المقابلات المطولة لحتى يعمموا روايتهم للإنفصال: فيروز تركتنا بجل إرادتها، ونحن حزينين، بس ما رح نمنعها بالقوة. أدت هاي التصريحات لانجراف كتار من الصحافيين لاتهام فيروز بالغرور وقلة العرفان، وحتى وصل الأمر لرميها بالخيانة. على سبيل المثال، نقل رئيس تحرير مجلة الشبكة وقتها، جورج إبراهيم الخوري، عن منصور الرحباني التالي: "ليس مطلوبًا من فيروز أن تحب عاصي، بل المطلوب منها أن لا تحب غير عاصي…" بعد عقود على تصريحات منصور، قالت ريما الرحباني، اللي كانت مقربة من فيروز وعاصي بفترة الانفصال، انه ترْك فيروز لبيتها كان مخططله: "انشغل لأنو ما ترجع فيروز ع البيت. ضهرت معها جزدانها بس."

يوم ٧ آب ١٩٨٣، أطلّت فيروز عبر إذاعة صوت لبنان التابعة لحزب الكتائب ويللي بتبث من الأشرفية. المقابلة ما كانت فرصة لتطل فيروز على جمهورها، بقدر ما هي مواجهة للأخوين رحباني. غير هيك، اختيار فيروز لهاي المنصة الإعلامية اليمينية غير عشوائي، فالأخوين رحباني خلال فترة إنفصالهم عن فيروز قدموا مسرحيتين في كازينو لبنان ومسرح جورج الخامس، الواقعين ضمن نفوذ تحالف الجبهة اللبنانية. إضافة لذلك، ليلة افتتاح "المؤامرة مستمرة"، أول عمل مسرحي رحباني بعد الانفصال، كان مؤسس حزب الكتائب اللبنانيّة بيار الجميل وابنه أمين حاضرين بالصف الأول. يبدو إنه الحرب الأهلية كشفت ولاءات الأخوين السياسية، فاختارت فيروز انها تواجههم في نفس المضمار، على أثير إذاعة بتمثل حزب الكتائب واليمين اللبناني. 

موضوع "الصمت الكبير اللي صار لغز" بمثّل هوس للإعلام العربي بتصويره لفيروز. مبدئياً هو أحد أوجه الصورة النمطية اللي انرسمت لفيروز: "الصامتة الكبيرة"، اللي ما بتضحك ولا بتتحرك وهي بتغني، وبتوقف على المسرح متل الصنم! فيروز مقلّة بالإطلالات الإعلامية، مزبوط، بخلاف الأخوين الرحباني اللي كانوا كتير بحبوا الظهور، لكن حتى بمقابلاتها القليلة بهديك الفترة رفضت إنها ترد على الاتهامات اللي طالتها. بنفس الوقت ما سكتت للأخوين رحباني، وحتى سخرت من نفوذهم الإعلامي. في وحدة من مقابلاتها، علقت فيروز على كترة انشغال الصحافة بالأخوين رحباني وقالت: "دخلك ليش كل ما عطسوا بينكتب إنهم عطسوا؟"

اللافت بهاد المقطع أولاً هو إجابات فيروز اللي مليانة شعرية وصور وفلسفة، يعني إجابات كتير منمقة. غير هيك، لافت كيف فيروز بتحكي عن حالها بصفة المجهول، وكمان كيف ذكرت عاصي بالاسم، وما أشارت للأخوين رحباني، مع إنه اسم فيروز اقترن على الدوام بالأخوين أولاً وبعاصي بدرجة ثانية. معناته، فيروز كانت عم بتحط النقاط على الحروف بهاد الموضوع الشائك.

هاد المقطع مبدئياً ما ترك كليشيه خصه بفيروز إلا وانجابت سيرته. فيروز عنيدة، فيروز مترددة، فيروز ابتسامتها مكبوتة. بس اللافت أكتر هو إجابات فيروز المباشرة والواضحة، واللي كمان مرة بتحكي فيها عن حالها بصيغة المجهول! بس واضح كمان نفور فيروز من الصورة النمطية اللي انرسمتلها، وأشارتلها بـ"حبس الرسميات". يمكن هاد الحبس صنعته دكتاتورية الأخوين رحباني، اللي ما حدا بينكرها ابتداء من فيروز نفسها. طيب، المقطع الجاي مهم كتير لفهم قديش وصف فيروز بالـ"الصامتة" مش كتير دقيق، لأنه رح نكتشف قديه فيروز تكتيكية بتصريحاتها، وكمان عندها حس فكاهة مش قليل.

مزبوط فيروز "مع منصور"؟ طيب، مرق على هدول المسرحيتين حوالي الأربعين سنة. حدا بيتذكر أغنية وحدة منهم؟ حدا عمره شافهم على التلفزيون؟ امتحان الزمن كان هو الفيصل، وأكد على إنه فيروز كانت عم بتجاوب بسخرية شديدة على أوهام منصور الرحباني. بس لسا المواجهة بين فيروز والأخوين ما خلصت، والمقطع الجاي خير دليل.

الواضح من هاد المقطع من المقابلة إنه حتى سنة ١٩٨٣، الحرب الإعلامية على فيروز كانت على أشدها على الرغم من مرور أربع سنوات على انفصالها عن الأخوين رحباني، وموقف وردة الزامل - محاورة فيروز - يبدو ما كان حيادي، حتى لو افترضنا إنه "ناقل الكفر ليس بكافر": فالمحامي اللي يفترض بعث هاي الرسالة للبرنامج ما انكشف عن هويته، فبالتالي الرسالة كانت ببساطة محاولة لاستدراج فيروز لاستخدام نفس الأسلوب الهجومي اللي انتهجوه الأخوين رحباني وأصدقاءهم في الصحافة. لكن فيروز ما وقعت بالفخ: ردت بدون محاججة أو تبرير، وشككت بوضوح بهوية المُرسل. اللافت كمان إنها نفت وجود خلاف مع  منصور الرحباني، مع العلم إنه هاجمها بشكل مباشر في الإعلام ووصل فيه الحد لاتهام فيروز بخيانة عاصي. عنصر آخر كان لافت وهو تأكيد فيروز على إنه عاصي الرحباني هو الأساس، وهاد تأكيد ضمني على جوهرية دور عاصي في الثلاثي ورجوح كفته في ثنائي الأخوين، وهي الحقيقة المش مريحة لكتار.

 المقطع الجاي كسر الجو المشحون اللي ساد المقابلة، وأضاء على زاوية كانت نادرة الظهور بشخصية فيروز. على الرغم من التحفظات الكثيرة اللي بتتسجل على أسئلة وردة الزامل، إلا إنها نجحت بإظهار الوجه الإنساني لفيروز اللي غاب عن الجمهور، بسبب الهالة الأيقونية اللي أحاطت وما زالت بفيروز، وتسببت بحبسها بقالب الملكة وسفيرة لبنان إلى النجوم والأرزة وعمود بعلبك السابع إلخ. هاي الألقاب بالنهاية حرمت فيروز من حقها في إنها تكون نهاد حداد لا أكثر ولا أقل. 

سنة ٢٠١٧، وبعد أكثر من عشر سنين على سماعي للمقابلة لأول مرة، كنت لساتني بحالة دهشة. عشان هيك قررت إني حاول أتواصل مع وردة الزامل وأعرف أكثر عن أسرار هاي المقابلة. وبالفعل بعثتلها رسالة على التليفون، عرفت عن حالي، وقلتلها إني ببيروت عم بشتغل على رسالة الماجستير عن فيروز خلال الحرب الأهلية. تفاجأت إنه بعد مرور كم ساعة بتتصل فيّ وردة، وبتدعيني لألتقي معها في استوديو إذاعة الشرق، محل ما بتشتغل من لما تركت إذاعة صوت لبنان. يوم ١٥ نيسان وبعد انتهاء البث المباشر لحلقة برنامج "صالون السبت"، التقيت مع وردة وسألتها عن حوارها مع فيروز.

الجدير بالذكر هون إنه لما نشرت وردة نص وتسجيل اللقاء ضمن كتابها "بكل أمانة"، حذفت حوالي ٢٥ سؤال من المقابلة الكاملة مع فيروز، وتحديداً الأسئلة الإشكالية اللي تطرقت للخلاف مع الأخوين رحباني. لما سألت وردة عن السبب، قالت إنه المقابلة طويلة وبتتطلب حيز ورقي ورقمي غير ممكن توفيره. بالمحصلة، وسواء كان سبب الحذف تقني أو تحريري، فالمقابلة صدرت في الكتاب منزوعة السياق بشكل شبه كلي، وخالية من الإشكاليات. عنصر آخر شديد الأهمية انحذف من تسجيل المقابلة، هو مجموعة مقتطفات من أغنيات كانت فيروز بصدد تسجيلهم بداية الثمانينيات، منها أغنيات لزياد الرحباني وفيلمون وهبي، جميعها صدرت لاحقاً مع اختلافات في الموسيقى. إلا أن المقطع الأهم واللي انبث مرة وحدة على الراديو واختفى كلياً هو تسجيل مدته دقيقتين لقصيدة "أمشي إليك" اللي لحنها الموسيقار رياض السنباطي. هالتسجيل زاد من تعقيد اللغز اللي بيحيط فيروزيات السنباطي، لأنه أظهر قدرة فيروز على غناء هذا النوع من القصائد وبفترة وصل صوتها فيها لذروة النضج والمهارة التقنية، ومن دون تقليد لأم كلثوم، واللي هو السبب اللي افترضه كثر لتبرير تردد ثم رفض فيروز لإطلاق ألحان السنباطي.

المقطع هاد يرجح إنه اللي وزعه موسيقياً هو الموسيقار الراحل وليد غلمية، لكن للأسف ما قدرت أتحقق من هاي المعلومة، خصوصاً إنه بالإضافة للغموض اللي بيلف فيروزيات السنباطي، في كمية تكتم مخابراتي من قبل كل اللي عاصروا تسجيل الألحان أو سمعولها بشكل كامل.

 حتى بعد ٣٥ سنة من بثها، المقابلة لا زالت محط اهتمام، ولسا فيها ألغاز ما انحلت. ما بستغرب إنها كلفت وردة الزامل سنتين شغل، حتى كمان كادت تكلفها حياتها: مرة من المرات اللي كانت رايحة فيها وردة على بيت فيروز لتسجل، لحقتها سيارة على الطريق (يبدو تابعة لأحد المليشيات) وحست وردة إنها عم تتعرض لمحاولة خطف. ما قدرت تهرب إلا قبل لحظات من وصولها لبناية غندور محل ما كانت فيروز ساكنة. لما وردة حكت اللي صار معها، غضبت فيروز كتير، واتصلت بالتليفون مع عدد من السياسيين، وتوجهتلهم كلهم برسالة وحدة: ضبوا زعرانكم. 

****

 قصة هالحلقة كتبها عمر ذوابه من فريق معازف اللي بالمناسبة قدّم رسالة ماجستير عن فيروز خلال الحرب الأهلية اللبنانية. حررت الحلقة صابرين طه، ومنتجها تيسير قباني من صوت، وقدّمتلكم ياها أنا رنا داود. 

اشتركوا بقناة دم تك على أي وسيلة بودكاست بتفضّلوها. تابعونا بالحلقة الجاي لتتعرّفوا على سيرة آخر فنّانة بموسمنا الأوّل.  

 

 

أغنية البودكاست:

Serenity, Akash Gandhi

أغنية البودكاست: لما بدا يتثنى، شيرين أبو خضر، دوزان

رح نبقى سوا، فيروز

عندي ثقة فيك، فيروز

لبيروت، فيروز

سهر الليالي، فيروز

أمس انتهينا، فيروز

لقاء إذاعة صوت لبنان مع الفنانة فيروز

خليك بالبيت، فيروز، من لقاء إذاعة صوت لبنان مع الفنانة فيروز

وحدن، فيروز

ضاق خلقي، فيروز

يا ريت منن، فيروز

مقابلة مع وردة الزامل، تسجيل عمر ذوابة

قالتلي المراية، فيروز

أمشي إليك، غناء فيروز وتلحين رياض السنباطي

بقولوا صغير بلدي، فيروز