المدونة

عامٌ من الصوت

بقلم تالا العيسى

يمكننا القول إنّ افتتاح النّصوص بوصف مروّع لزمننا الحالي قد أصبح مبتذلًا، لكنّ العبارات المبتذلة مفيدة، من شأنها أن تحصر المجموعيّات المتراكمة في إيجاز مُجرّد. لذا، اسمحوا لي أن أبدأ بـ... "يا لها من سنة!"

في محاولة لاستيعاب قصف عام 2020 المستمر، وجدنا أنفسنا في «صوت» نتأرجح بين الواقع والخيال، بين الاعتراف بالحقيقة والهرب منها. تكمن مشكلة الواقعيّة - وأرجو أن تعذروا نبرتي التّهكّميّة - في كونها تفتقر للبهجة في غالب الأحيان، وخاصّة في هذا العام. هذا السّياق جعلنا ندرك أنّه إنْ أردنا الحفاظ على سلامة عقولنا، علينا أن ننفصل ولو لحظياً عن محيطنا الخارجي المُدمَّر، وذلك بالسّماح لأنفسنا بالاستمتاع بفواصل مُلهمة، والّتي تجلّت في برامج جديدة تحتفل بملذّات صغيرة. في نهاية المطاف، وعلى الرّغم من هذه الرّحلة المثيرة للغثيان - أو ربّما بسببها - قمنا بنشر 294 حلقة و10 برامج جديدة، أي أكثر بنسبة 155% من عام 2019، كما ازداد عدد الاستماعات بنسبة 300% تقريبًا مقارنة مع العام السّابق.

 لمحة عن برامجنا الجديدة

بصفتنا مؤسّسة إعلاميّة، تكمن مهمّتنا الأساسيّة في تقريب الأحداث الواقعية وتحليلها وتفكيكها. لم يكن عام 2020 استثناءً لذلك، وكما كان متوقّعًا، أصبح فيروس كوفيد-19 موضوعًا يتكرّر في أغلب برامجنا. ولكن نظرًا لتعقيده، قرّرنا تخصيص برنامج جديد له، بعنوان المستجد، وذلك لنتعمّق أكثر في الفيروس وتقاطعاته مع مسائل أخرى. وبعد إنهاء موسم كامل، قرّرنا أن نبتعد عن موضوع كورونا ونركّز على مواد إخباريّة أسبوعيّة، والّتي تنوّعت جدًّا: من انفجار بيروت المروّع إلى فيلم «Cuties» غير اللّائق الّذي أنتجته شبكة نتفليكس.

 بالتوازي مع طرحنا لأحداث أسبوعيّة، أدركنا أنّه لا زمن أفضل من زمننا هذا لنتحدّث عن الموت. وهكذا وُلِدَ ماتريوشكا. الموت مسألة مثقَلة، لذا لا بدّ من مناقشتها باستخدام الوسائط المسموعة، فالمحتوى المكتوب بعيد عن الرّوح، أمّا المرئي فمربك أكثر من اللازم. أما المادّة المسموعة فقادرة على إيصال الارتباك والتّردّد الحاضِرَين في أصوات الناس، ولكنها في الوقت نفسه تحرص على توفير مسافة، ولو قليلة، تُبعد المستمعين والمستمعات عن الوقائع الشّنيعة. قلّة قليلة من النّاس يرغبون في التّفكير أو الحديث عن الموت، حتّى في دوائرهم الخاصّة، ولذا فمن المنطقي أن نتكّلم عنه بأسلوب يضمن الخصوصيّة ويتّسم بالخيال؛ بأسلوب يخبّئ الأثر الوحيد المتّبقي للحديث في طيّات الهمسات المختلسة.

وعندما كان العالم يتّجه نحو توقّف غير متوقّع، معيدًا بذلك خلط أوراق القواعد والمُسلّمات، ارتأى لنا أن نُعيد التّفكير في تموضعنا كمؤسّسة صِحافيّة قائمة في العالم العربي. أردنا أن نوّفر لأنفسنا مساحة تساؤل عن الغرض من المحتوى الصّوتي وعن ماهيّة الإعلام المستقل. ما جعلنا نتحدّث إلى عشرات المؤسّسات العربيّة العاملة في المجال وننشر حواراتنا معها في برنامج جديد أسميناه إندِميديا، وأنتجناه بالتّعاون مع المجلّة الالكترونيّة التّونسيّة إنكفاضة.

 لطالما أرهقتنا مسألة الاستقلال هذه؛ هل يمكننا حقًّا أن نكون مؤسّسة مستقلّة تمامًا في بيئة تعتمد بشدّة على الحكومات والشّركات الكبرى والجهات المانحة؟ الإجابة ليست بالأمر السّهل، لكنّ التزامنا بإنتاج محتوى عالي الجودة نابع من رؤيتنا التّحريريّة، بمعزل عن رأي أي أحد آخر، حفزّنا على إيجاد طرق لضمان إيرادات بديلة. هذا التّعقيد المزعج أدّى إلى «صفحات صوت»، وهي مُنتَج مبني على نموذج الاشتراك يقدّم مقالات صوتيّة باللّغة العربيّة مختارة من منصّات الكترونيّة موثوقة في المنطقة، بما فيها حبر والجمهوريّة ومدى مصر ومتراس، وغيرها. يمكن الاستماع للمقالات من خلال اشتراك شهري أو سنوي. بمناسبة نهاية العام، نقدّم لكم/ـن عرضًا يمكّنكم/ـن من شراء اشتراك سنوي بـ 10 دولارات. للمزيد من المعلومات عن المنتج، زوروا هذا الرّابط.

 بعيدًا عن هذه الموضوعات والجهود المهمّة والكثيفة، استطعنا أن نُظهر جانبنا اللّطيف لأنفسنا ولمستمعينا ومستمعاتنا وأن نسمح لنا جميعًا بآليّة دفاع تريحنا قليلاً من ٢٠٢٠، وهكذا أنتجنا نفس ، القائم على توفير مساحة حُرّة لاكتشاف الصوت، وهو أحدث برامجنا. انتبهنا أنّنا في «صوت» نستخدم عادة الصّوت كمجرّد مُرَحِّل لا يتجاوز دوره نقل التّيّارات والكثافة والرّسائل والكلام. نتعامل مع الصّوت كوسيلة نستخدمها لتلبية احتياجاتنا، ولكن من خلال نفس أردنا تعقيد هذه العلاقة الخطّيّة وتحويلها إلى تجربة متعدّدة الأطراف.

 بالإضافة إلى لحظات الاسترخاء والأحاسيس المحفّزة التي يقدّمها نفس، اتّفقنا بالإجماع تقريبًا على أنّه ثمّة شيء آخر بإمكانه أن يهدينا استراحات مبهجة، وهو الطّعام. لذا، أنتجنا مهضوم.

العمل في ظلّ الحجر 

دفعنا هذا التّوسّع الهائل في الإنتاج إلى توظيف سبعة أشخاص مستقلّين ملتزمين وأربعة موظّفين وموظّفات بدوام كامل لينضمّوا إلى الفريق السّابق المكوّن من سبعة أفراد. فريقنا لا يزال صغيرًا إلى حدٍّ ما، ما سمح لنا بإدارة العمل عن بُعد أثناء الحظر الشّامل، خاصّة بوجود أعضاء أكثر خبرة في مجال التّكنولوجيا أثبتوا لطفهم وكرمهم في كلّ مرّة ساعدوا فيها «العامّة» منّا. لقد أمضينا ساعات في جلسات «هانغاوت» على «غوغل»، نتبادل أفكارًا جديدة، ونتحدّث عن كورونا والصّوت، ونحاول إطلاق النّكات السّخيفة. في الواقع، علي أن أعترف أنّني كنت المسؤولة عن تلك النّكات، فالعمل عن بعد يُعزّز ثقة كاذبة بحسّ الفكاهة لدي، ما يجعلني أعتقد أنّ مخاطر المزاح تقلّ من خلف الشّاشة.

وطبعًا، اختبرنا لحظات كثيرة دفعنا فيها سوء الانترنت إلى الجنون، لكن الانتقال للعمل عبر الإنترنت سمح لنا أيضًا بمقابلة مستمعين ومستمعات وشركاء محتملين لم نكن لنلتقي بهم في ظروف أخرى. وكما هو متوقّع، انتقلت حفلات الاستماع هذا العام إلى الفضاء الافتراضي، ما أشعرنا بخيبة أمل كبيرة في بداية الأمر، فالهدف الأساسي من حفلة الاستماع هو التّجمّع في مكان واحد والتّواصل والاستماع! ولكن بعد أن جرّبناها عدّة مرّات، اكتشفنا أنّ الحفلات عبر الإنترنت لديها الكثير من الجوانب الإيجابيّة الّتي لم نلاحظها من قبل؛ كان لدينا العديد من المشاركين والمشاركات الذين فضّلوا عدم الكشف عن هويّتهم، ولو لم تقم الشّاشة بحمايتهم، فما كانوا على الأرجح لينضمّوا إلى حفلة وجاهيّة، وقد شاركوا معنا قصصهم عن الأمراض المنقولة جنسيًّا ومشكلات الطّلاق، بينما انضمّ أشخاص آخرون من دول شمال إفريقيا وأوروبّا ليخبرونا عن علاقاتهم الّتي يعيشونها عن بعد وأزمات الهويّة. يصعب تحقيق هذا التّنوّع الثّري والمرونة في حفلات استماع غير الكترونية.

قبل بضعة سنوات، عندما انضممتُ إلى «صوت»، كنتُ أتساءل عمّا إذا كان الهوس بالبودكاست مجرّد فقاعة ستخيّب ظنّنا في نهاية المطاف. اليوم أعترف أنّني كنت مخطئة، وبشدّة. النّمو الهائل الّذي حققّناه أحد الأدّلة على ذلك. إليكم/ـن هذه الواقعة المسليّة: إذا جمعنا كلّ الدّقائق التي قُضيت في الاستماع إلى برامجنا خلال عام 2020، فستصل إلى 88 عامًا! إنّنا مطمئنّون ومطمئنّات أنّ هناك المزيد والمزيد من الأشخاص في العالم العربي الّذين يرون قيمة في فتح عقولهم وخيالهم لمحتوى ينمو ويكبر في قُطر صغير من ذلك الغضروف السّحري المعروف بالأذن البشريّة.